قراءة في فكرة القداسة
بين الواقعية والتبرير الموضوعي، الأمير عبد القادر نموذجا
طُرحت في الآونة الأخيرة إشكالية تقديس الأشخاص، على ضوء ما أُثير في شأن الأمير عبد القادر رحمة الله عليه. وبالرغم من أن البعض حاول مناقشة الموضوع بعلمية وموضوعية على صحف الجرائد خاصة، إلا أن اللغط تمكن من الكثير ممن حاولوا التطرق للموضوع، خاصة على شبكة التواصل الاجتماعي، وبعيدا عن هذا اللغط والمزايدات السياسية والأيديولوجية، ومن اجل المساهمة في مناقشة الموضوع بروية تسمح بالاتفاق حولها من جهة وتحصين القراءة النقدية للتاريخ من الضغوطات الجانبية، سنحاول من خلال هذا المقال الادلاء برأينا حول هذه الإشكالية وفق ما نعتقد أنه سيساهم في توضيح الرؤية فيما يخدم مسألة الذاكرة التاريخية, 04 فيفري 1833 ذكرى مبايعة ناصر الدين عبد القادر بن محي الدين.
كتبه: سي الناصر عبد الحميد.
لكن أيضا، و في اطار هذه المحدودية ، لا يمكن أن نغفل على أن التمايز و الفُروق بين الأشخاص داخل المجتمع الواحد انطلاقا من إمكانياتهم الذاتية و استعداداتهم النفسية و العقلية و الطُرق التربوية التي خضعوا لها، و كذا الظروف الاجتماعية و السياسية التي مروا بها خلال حياتهم فسقلت بذلك، مواهبهم و انضجت خُبراتهم، امرا لا يمكن أن يُختلف حوله، لهذا كان الترتيب القيمي للأشخاص على السلم التراتبي الثقافي و الاجتماعي ترتيبا محقا و منطقيا، بل حاجة ضرورية لتحقيق التوازن و التكامل الاجتماعي، خاصة عندما تكون هذه الحاجة الضرورية، مبنية على استحقاقات مشهود لها من قبل المجتمع لحظة بروزها و تشكلها، حيث تكون هذه الشخصية أو تلك حققت الإجماع النسبي، بفعل ما تميزت به من صفات و ملامح توافقت و الاطار القيمي والمرجعي للمجتمع، وتبنت بطريقة عفوية مرجعيته كرؤية كونية لها، لتتجسد بعد ذلك، هذه القيم المرجعية، في شخصيته و سلوكه، فتتأسس كحاجة نفسية/اجتماعية تمكن المجتمع من توحيد رؤيته و من ثم حركتيه التاريخية، من أجل القيام بدور تاريخي ما. فالبروز والتألق، بالمعنى التاريخي للكلمة، ومن اجل دور تاريخي ما، لا يتأتى بشكل فعال وحاسم، إلا إذا لامس عالم الأفكار والقيم ونطق باسم هذه المرجعية، لأنه حينها يعود الصورة المعبرة عن الكل ويضحى الحالة الجامعة لهذا الكل، حتى وإن لم يحقق صاحبه الاجماع المطلق. مما يبرر موضوعيا حالة القداسة التي قد يتربع على كرسيها ويستحقها عن جدارة.
ولعل المقولة التي جاءت على لسان هيجل عن نابوليون حين دخل هذا الأخير روسيا تؤكد هذه الفرضية، حيث قال “ها هو روح التاريخ يمتطي صهوة جواده…”، فقد نسخ هيجل روحياً، بمقولته هذه التاريخ في شخص نابوليون، لأن هذا الأخير جسد في نظره، القيم الجديدة التي أضحت الحداثة والتنوير و قيم الثورة الفرنسية، تتبناها كرؤية كونية جديدة كما جعلت من شخصية نابوليون، شخصية مركزية في تاريخ فرنسا في نظر الكثير من الفرنسيين الى غاية اليوم، حيث تدلل استطلاعات الرأي التي أجريت في فرنسا مهد العلمانية الصلبة.
و عليه، وإذا اعتمدنا هذه المقولة كمقدمة في محاولة فهم فكرة القداسة، نجد أنها، أي القداسة، تجد لها مبررا وسندا في كون الشخصية المعنية بها، استطاعت أن تتقمص قيم ومُثل المجتمع بطريقة عفوية وصادقة، كما ذكرنا سلفا والتي تمكن هذا الأخير، أي المجتمع، من تلمسها واستشعارها في قدراته وامكانياته وتميزه، فأضحى في نظر المجتمع، مخلصه الفعلي من جهة والضامن المركزي لبقاء قيمه وتجلي رؤيته الكونية من جهة أخرى. مما يدلل أيضا، على أن صورة القداسة التي تمكنت من الاستقرار داخل مخيال المجتمع، وإذا أمعن النظر فيها بشكل جيدا، نجدها لا تتمحور حول شخص البطل أو الزعيم في حد ذاته، إنما تتجه وبطريقة لا شعورية ومضمرة نحو جملة القيم والمُثل التي تجسدت فيه وتمكنت من التمظهر في أفعاله وسلوكه، فأهلته بذلك للقيام بدور تاريخي ما، إذ أن حمولة القداسة التي يستشعرها المجتمع نحو الشخص، في جوهرها هي حمولة عالم القيم والمثل وليس حمولة عالم الأشخاص.
فهل حققت شخصية الأمير عبد القادر هذا الشرط حتى استحقت مكانة القداسة في التجربة التاريخية والثقافية الجزائرية؟
الذات والانتساب
يقول كوسدورف “… لا نستطيع الكتابة عن الذات بدون حد أدني من التقدير الذي نوليه لأنفسنا، والذي يجعل منا شخصية، مركز للعالم، ولو كان هذا العالم خلية عائلية. “[1]
” تُكتبُ السيرة الذاتية في الأطر الثقافية والبيئة الرمزية التي ينتمي اليها الكاتب، لأن تصور وضع الذات في السلم التراتبي للثقافة والمجتمع هو الذي يجيز ويشرع للكتابة عنها”[2].
كما يحدد هذا التصور للذات، درجة التناغم والانسجام بين هذه الشخصية وهذا الكل الذي يسعى الى تمثيله والتحدث باسمه. و لعل ما أشار اليه الأستاذ بهادي منير في كتابه[3] عن الأمير عبد القادر، في الفصل الذي افتتح به هذا الكتاب، الذات بين الذاكرة و الرمز، في كون الأمير استعمل في مذكراته في الحديث عن نفسه ضمير الغائب، باعتبار استعمال هذا النوع من الضمائر في تدوين السير الذاتية، حديث عن كون الشخصية المتحدثة، شخصية عمومية يقتضي “الكلام عنها كما لو كانت نصا أو ظاهرة اجتماعية و تاريخية”[4]، كما يندرج استعماله أيضا، حسب الأستاذ منير دائما، ضمن الفهم الصوفي للاجتماع الإنساني الذي لا يقوم على التمييز بين الانا و الاخر الا مجازا، لأن حسب هذه الرؤية، النفس الإنسانية، نفس واحدة، أي النفس الكلية. قلت، يمكن ان يكون مقدمة معبرة و أساسية في ادارك ما جعلناه شرطا في استحقاق مكانة القداسة بالمعنى التاريخي للكلمة، حيث يدلل هذا الاستعمال على درجة شعور الأمير، باعتباره الذات المدركة لدورها التاريخي أو الذات المتميزة، بكونه جزء من هذا الكل، كما يدلل أيضا و بشكل مضمر، ان هذا الكل الذي هو المجتمع، جزء من هذا الكل الذي هو الأمير عبد القادر، حيث أضحت الذات قادرة على تمثيل هذا الكل من خلال قدرتها على تَمَثُل قيمه و تاريخه بالمعنى الانطولوجي ، حيث أظهر الأمير هذا التصور لذاته حين أدرك مسؤوليته نحو من يمثلهم من جهة و التزامه بالقيم التي اعتاد عليها اسلافه في تعاملهم و سلوكهم من جهة أخرى. يذكر الأمير حين سئل عن الطريقة التي كان يتعامل بها مع من كان معه من رفقائه في سجن أنبواز 1849 قائلا ” … على هذا كان اسلافي مع من يساكنهم، ويصاحبهم، فلا يقول أحدهم حصاني وبرنسي، ومالي، بل يقول حصاننا، وبرنسا، ومالنا ولا أريد أن أخالف أسلافي في شيء”.
هذا الشعور بإمكانيات الذات التي أدرك وجودها الأمير في شخصيته، فظهرت في تعامله مع رفقائه، والتي حاولنا شرحها باقتضاب في الفقرة السابقة، وبما تسمح به مساحة هذا المقال، لا يمكن أن تكون قاعدتها المؤسسة، إلا ذلك الشعور بانتمائه التاريخي أو بذلك الرباط الذي كان يشده الى اعماق تاريخٍ رساليٍ، و الذي يعود الى آل البيت، – و آل البيت هنا ليس بالمعنى المذهبي للكلمة بقدر ما هي بالمعنى التاريخي العام -، هذا الانتماء الذي يحمل الكثير من المعاني والدلالات النفسية و الوجدانية خاصة، في المخيال الجمعي للإنسان الجزائري في تلك الفترة من تاريخه الثقافي و الاجتماعي و الديني. فقد انتبه الكثير ممن درس سيرة الأمير عبد القادر، خاصة فيما كتب عن نفسه، أنه يتحدث عن هذا الانتماء بشكل ملفت للنظر، حين ربط بين سيرته الذاتية والسرد السيرة المحمدية لتجد ” … الذات الاميرية امتدادا لها في الذات المحمدية على مستوى النسب”[5] ، حيث تعد فكرة الانتماء والنسب ” … عنصرا أساسا في الرأسمال الرمزي للمجتمع العربي، و واحد من أركان العصبية التي تحدد وضعية الافراد في السلم الاجتماعي و السياسي … كما هي احد العناصر المكونة للوعي التاريخي الإسلامي. خاصة إذا كان النسب للآلي البيت الذين يمثلون في الوعي الرمزي صفاء التاريخ وطهارة الإنسان المنشود، ومستودع المخلص الذي تنتظره الإنسانية. “[6].
التجربة والتميز والقراءة المغايرة
إن المتأمل في ما كُتب عن الأمير ، يسجل أن اهتمام جل هذه الكتابات كان منصبا حول الجانب السلوكي لفعل الأمير أو الجانب الجهادي من حياته، و هذا اكيد عمل مهم و ضروري للتعريف بهذه الشخصية المؤثرة ، إلا أن الاهتمام بالجانب العقلي أو النظري، لم يأخذ حقه، فيما نعتقد، من الدراسة و التأمل، رغم أهميته في فهم تصور الأمير و رؤيته الفكرية لقضايا عصره، و التي نزعم أنها تشكل الركن الركين في تجربته الحياتية، بل قد تجعل من تجربته، تجربة تجديدية خاصة في المجال السياسي، انطلاقا من كونه خاض تجربة فريدة من نوعيها في التأسيس للدولة، و كذا في التعامل مع الاخر، سواء عسكريا أو فكريا، و قد يكون الجانب الفكري من هذه التجربة ، هو الجولة الثانية من فعله الجهادي، حيث أنتقل الصراع، و بوعي من الأمير، يسجل تفاصيله كتاب المقراض الحاد، من الشكل العسكري و الجهادي المسلح الى المقارعة الفكرية و الثقافية، بعدما ادرك الأمير استحالة مواصلة الصراع العسكري بسبب التوفق الحضاري بين مجتمعين، فقد فيها الاول حضارته في حين بدأ عنده الثاني في بلورة سيطرة على العالم تحت فكرة الكولونيالية أو المركزية الغربية. هذا الوعي الاستثنائي الذي أظهره الأمير، تظهر ملامحه الدقيقة في تفاصيل عباراته و أقواله التي كتبها في رسائله، كما تبرز أيضا، في خلفية فهمه المتميز لقضايا عصره، خاصة رؤيته لمفهوم المقاومة و الفعل الجهادي، و التي تُظهرها هذه العبارات و الاقوال، انطلاق من إدراكه لدوره التاريخي، لتجعلنا اليوم، و نحن نتأمل هذه التجربة و من خلال تلمسنا لهذا الوعي الأميري المتميز، أن نعيد فهم المنطق الاستشرافي الذي حكم جوهر تصوره حين إبرامه لمعاهدة الصلح بينه و بين الفرنسيين، فنكون بذلك قدمنا للقارء لهذا الموقف، الصورة المنسجمة و المنطقية مع ما قام به الأمير خلال سبعة عشرة سنة من المقاومة و الجهاد، )لم ينهزم خلالها في معركة واحدة من المعارك التي خاضها ضد المحتل الفرنسي.
” … في الرسالة التي بعث بها للجمهوريين مع العقيد أوليفيان في فيفري سنة 1848 “[7] و بعد أن يعلق على الأسباب التي دفعت به لهذه المعاهدة و يشرح أسباب مقاومته للمحتل، يقول الأمير ” … فما اضن إن أحدا ممن على وجه الأرض ، من البشر، ينكره علي، أو يذمني به لأني رجل أوجب علي ديني أن ادافع عنه و عن أرض أهله …. و بذلت وسعي فيه ما استطعت، و لما ظهر لي انتهاء أجل قيامي بهذه العبادة، التي حزت بها –و الحمد لله- شرف الدنيا و الآخرة، وتلاشت الهمم، و تقاعست العزائم، و نفذ ما كان عندي من المواد و الأسباب التي كان القيام بها، سلمت و قلت : إن الأرض لله، يورثها من يشاء من عباده، فهو أقامني حيث شاء و أقعدني حيث شاء”[8] ، أن هذا الفهم الانطولوجي للتاريخ، المتميز و الملفت للنظر، يلخص المسافة التي ادرك وجودها الأمير بين تحقيق الغاية، التي هي اجلاء العدو من ارضه و مواصلة جهاده ضده، و الدور التاريخي الذي سعى الى القيام به باعتباره واجب ديني و وطني، إذ أن تحقيق هذا الهدف، في تصوره، خاضع لمبدأ المشيئة بالمعنى الصوفي للكلمة، أم الفعل و الواجب، فهو القيام بالدور التاريخي المنوط به، لأن، و وفق هذا المنطق الصوفي الذي حكم تصور الأمير في صراعه مع الاخر، الأرض من حيث المبدأ هي لله، حتى و إن كان مفهوم الوطن و الذود من أجله يدخل تحت دائرة الواجب، إذ أن هذا الدور الذي انبرى للقيام به، هو في حقيقته دورا تأسيس لفعل تاريخي قادم، تُستوفى فيه الشروط الموضوعية التي يُسْتَكْمَلَ عندها غايات و أهداف هذا الدور، و أن الواجب، بهذا المعنى و في هذه الفترة التاريخية و تحت طائلة الظروف التي ذكرها الأمير سلفا، يعود دورا تاريخيا يسجل عنده المجتمع من خلال شخصية الأمير، صورة التشبث بالبقاء، فقد كان استشهاده بالآية القرآنية في قراءته لمستقبل دوره التاريخي، دقيقا جدا و منسجما كل الانسجام مع ما كان يعتقده و يؤمن به من قيم و يتصوره كمبدأ، حيث يقول في كتاب المواقف – و لننتبه هنا لكلمة بشارة بسعادتي و التي تدلل على ثقته بالمستقبل- ” سألت الحق تعالى بشارة بسعادتي، وقد فعل ذلك مرارا، و لكن لتكرار البشارة لذة، فألقى علي قوله ” لتكون لمن خلفك آية و إن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون”[9] . ولعل إشارته هنا للآية الكريمة ” لتكون لمن خلفك آية”، المقصود بها التنبيه الى الدور التاريخي المركزي لما قام به من مقاومة في التأسيس للمرحلة اللاحقة والتي سيُستكمل عندها هذا الدور، الذي أدرك الأمير بشارته بصفاء روح امتلكت من المحبة والمسؤولية التاريخية ما جعلتها تقف في دمشق موقف النبلاء. إن فهم الأمير، والمنطق الذي جعله سندا لموقفه هذا، ينطوي على وعي دقيق بمبدأ السننية الذي يحكم حركة التاريخ، ومنوط بالتراكمات الكبرى التي تحدثها هذه الحركية تحت فعل، استجابت المجتمع لتحديات الزمن، حيث يحدد، هذا الدور، لحظة ميلاد فعل تأسيسي شكل أول إنعطافة في تاريخ الامة الجزائرية، نسجت تفاصيله مستقبل تاريخها.
ربما القارئ و هو يتأمل في ما جاء في الفقرة السابقة، يوعز قراءتنا هاته، للتفسير الصوفي للأحداث، و قد يكون هذا الرأي فيه شيء من الصحة، لكن ما يظهر أنه تفسيرا صوفيا محضا، ينطوي في جوهره، فيما نعتقد، على ادراك عميق و دقيق لرؤية الأمير العقلية، و التي سجلها في تأملاته و قراءاته، باعتبار أن مفهوم العقل وفق هذه الرؤية أو وفق الرؤية التي تنتمي للفضاء الثقافي الذي احتوى فكر الأمير و اطر تصوره، يمتزج فيه الروحي بالمنطقي أو العرفاني بالبرهاني، و تعود عنده المعرفة العلمية، تفسيرا للوجود من اجل بلوغ الغاية الانطولوجية، و ليس كما هي في نظيرتها الغربية، حيث تتأسس المعرفة من أجل تفسير العالم و من ثما التحكم و السيطرة عليه، و التي بررت معرفيا للعقل الغربي فكرة الكولونيالية. هذا التفسير الذي يتأسس على الروحي و المنطقي، أو العرفاني و البرهاني، و الذي ميز تفكير الأمير عن غيره، ندرك كنهه و مضمونه في المقاربات التي قام بها الأمير في نصوصه، و خاصة كتابه المقراض الحاد، هذا الكتاب، الذي جاء ردا على احد القساوسة الفرنسيين، لخص من خلاله الأمير ايضا، رؤيته لمفهوم العقل و بين شرفه عن بقية الحواس، و ابرز من خلاله، تصوره للعلاقة بين العقل و العلم، حيث أظهر مركزية الأول، الذي هو قوة نظرية، و بين أهمية الثاني بالنسب لدور الأول في فهم الظواهر و الاشياء، كما نبه الى دور التجربة الحياتية للفرد باعتبارها جزء من التعقل ايضا، لتكتمل صورة مفهوم العقل في الرؤية الاميرية، الى كون العقل و غاية التعقل، هي القدرة على كبح غرائز الانسان و تقويضها ضبط سلوكها[10].، فلا يمكن أن يحقق العقل غايته، إلا إذا كان منتهاه ترويض النفس و قمع الشهوة الداعية الى اللذة. فضبط السلوك هو الغاية القصوى من إدراك فعل التعقل.
هذا التفسير لمفهوم العقل، الذي حاولنا عرضه بشكل مقتضب، و اعتمده الأمير كرد على الرسالة التي رسلها القساوسة الفرنسيين اليه، و التي تمكن الأمير من إدراك ما انطوت عليه من ابعاد فكرية و ثقافية و أخلاقية، في اطار ما يسميه مالك بن نبي بالصراع الفكري أو ما وصنفناه على انه الجولة الثانية من الفعل الجهادي للأمير، كان ردا قويا و نقدا معرفيا متميزا على فكرة الكولونيالية التي انتجها العقل الغربي، فصورة الحداثة و التفوق الحضاري الذي حمله المضمون المضمر لرسالة القساوسة الفرنسيين، حين اتهموا فيه المسلمين بعدم الالتزام بالعهود و مخالفة الاتفاقيات، استطاع الأمير بهذا التحليل لمفهوم العقل و تحديد الغاية منه، أن يعيد توجه التهمة الى أصحابها الحقيقيين، و أن يبين جوهر مضمون و نهايات الرؤية الغربية للعقل بشكل غير مباشر و المبنية على فكرة الانصياع الى الغرائز و على راسها غريزة حب التمك التي هي في جوهرها شهوة الاستعمار و رغبته حتى و إن ادعت فكرة الكولونيالية حملها لمشروع تحضير الشعوب و إخراجهم من التخلف.
إن هذه الملامح، -ادراك المتميز للذات، النسب و الانتساب الرسالي، التميز في قراءة القضايا و الإمكانات العقلية المتميزة-،التي حاولنا توضيحها للقارء في شخصية الأمير عبد القادر، و جعلناها شرط لاكتساب صفة القداسة بالمعنى التاريخي للكلمة، كما جاء في مقدمة هذا المقال، تحتاج الى تفصيل أكثر و تركيز أدق حتى تتضح حولها الرؤية فنعيد من خلالها ذلك، قراءة تجربة الأمير من زاوية مغايرة لم يسلط عليه الضوء بالشكل الكافي ، توجهها فكرتين أساسيتين : فكرة العقل الجامع بين العرفاني و البرهاني من جهة و فكرة انتقال الصراع في نظر الأمير من طابعه العسكري المسلح الى الطابع الفكري، والذي يبرز نفاصيله كتاب المواقف، باعتبار هذا الكتاب أو الرسالة، ردا عميقا و ذكيا من قبل الأمير ،عن سؤال كان بإمكانه أن يرد عليه بشكل بسيط و مباشر، و هو صاحب تجربة مريرة مع سلوك فرنسا في الغدر بالعهود.
[1]المخيال و التاريخ ص16 – الأستاذ منير بهادي
[2]المخيال و التاريخ ص11 – الأستاذ منير بهادي
[3] نفس المصدر ص 12
[4] نفس المصدر ص 11
[5] نفس المصدر ص 13
[6] نفس المصدر ص 16
[7] نفس المصدر ص 26
[8]نفس المصدر ص 26-27
[9] كتاب المواقف ص 795 …. صوت يونس الاية 92
[10] أنظر كتاب المقرض الحاد ، تعرف العقل و مراتب النظر ص 9-10-11-12