كتبته | هبة نوال
في الوقت الذي يشهد فيه المشهد العالمي والأفريقي تطورات تشبه الانقطاع الأنثربولوجي، تبقى المفوضية الأوروبية مصممة على استخدام التهديد لمواصلة هروبها إلى الأمام في القارة الأفريقية. ما هي حجج الرئيس تبون، في مواجهة هذا الانعطاف الأوروبي الذي يحدث في الوقت الذي تنوي فيه الجزائر وبلدان أفريقية أخرى إحداث قطيعة نهائية مع ويلات القرن العشرين ؟
تم توقيع اتفاق الشراكة عام 2005 بين الجزائر والاتحاد الأوروبي (الاتحاد الأوروبي) بهدف تعزيز علاقاتهما الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، من خلال إنشاء منطقة تجارة حرة وتنشيط التبادل التجاري الثنائي. لذلك، تعهدت الجزائر بفتح أسواقها لدخول المنتجات الأوروبية، ولكن بشروط لم يلتزم بها الاتحاد الأوروبي.
بعد ما يقرب من عقدين من الزمان، لا يزال الاتحاد الأوروبي يتجاهل طلبات الجزائر الداعية إلى احترام التزاماته بشأن نقل التكنولوجيا ونسبة الدمج والاستثمارات الملموسة. والتهديدات شبه المكشوفة باللجوء إلى الآلية القضائية الأوروبية قد تجعل من هذا الاتفاق مصدر توتر في الأشهر المقبلة بين الجزائر و بروكسل أو بالأحرى الدوائر التي تحرك الميكانيكا المعقدة للأتحاد.
فالجزائر، على غرار العديد من البلدان الأفريقية، تستعد لمواجهة الترسانة القانونية للاتحاد الأوروبي. سيكون إذن شعار التعامل بمبدأ رابح-رابح الذي تبنّاه الرئيس تبون ولا ينوي التخلي عنه، في مواجهة مبدأ التجارة الحرة في اتجاه واحد، وهو المنطق الأوروبي لا يزال ثابتًا ويختزل سياساته الإقتصادية المهيمنة طوال القرنين الماضيين.
على الرغم من التغيرات العميقة في الساحة الدولية وخاصة الأفريقية، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى نقش سيطرته على التجارة في أفريقيا في إطار تقليده الاستعماري الجديد.
ومع ذلك، مع تراجع سرعة القارة العجوز أمام المنافسة الصينية والروسية والتركية، وخاصة ظهور مناطق التجارة الحرة الأفريقية والمشاريع الأفريقية المتكاملة، يبدو أن الاتحاد الأوروبي يصر على تحمل المخاطر للحفاظ على امتيازاته الموروثة من القرن العشرين, فهل يذهب مع الجزائر إلى حد الإصطدام بحائط النتائج العكسية التي اصطدم به من خلال عقوباته على روسيا بسسب الحرب في أكرانيا؟
فيما يتعلق بالجزائر،فإن أحد المشاكل الرئيسية التي يراد التخلص من آثارها هي التفاوت في الميزان التبادلي الذي يرجح لصالح بعض دوا الإتحاد على حساب السلع الجزائرية التي تبحث لها عن طريق إلى الأسواق الأوروبية الملغمة بترسانة من الحواجز المعيارية و الصحية و القانونية التي غالبا ما تكون لا مبرر لها، سوى محاولة فرض التبعية.
و تجدر الإشارة أن الواردات الجزائرية من الاتحاد الأوروبي ارتفعت بشكل كبير، في الوقت الذي لم تستفد فيه الصادرات الجزائرية، والتي كانت سابقا تتكون أساسًا من المحروقات.
فعلى سبيل المثال، تواجه المنتجات الزراعية الجزائرية والسلع المصنَّعة صعوبات في اختراق السوق الأوروبية بسبب الحواجز المعيارية، مما يزيد من العجز التجاري للجزائر وتبعيتها الاقتصادية تجاه أوروبا.
بالإضافة إلى ذلك، لم ينجح اتفاق الشراكة في تنويع الاقتصاد الجزائري كما كان مأمولاً. ظلت الصناعة الجزائرية شديدة الاعتماد على المحروقات، والنمو في القطاعات الاقتصادية الأخرى كان هامشيًا. وعلاوة على ذلك، عانت الصناعة النسيجية الجزائرية من المنافسة المتزايدة للمنتجات الأوروبية، مما أدى إلى إغلاق العديد من الشركات المحلية. تم حاليا إعادة بعثها من جديد في إطار استراتيجية السلطات الجزائرية تجسيد استراتيجية الرئيس تبون في تنويع مصادر المداخيل من خارج المحروقات
وتكشف التقارير أنه لم تصل الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI) القادمة من الاتحاد الأوروبي إلى المستويات المتوقعة، إذ ركزت تدفقات الاستثمارات الأوروبية المباشرة بشكل أساسي على قطاع المحروقات، وأغفلت قطاعات أخرى، مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أو الصناعة الدوائية. هذا الوضع عزز الشعور بأن اتفاق الشراكة يعود بالفائدة على الاتحاد الأوروبي أكثر من الجزائر، مما زاد من شعور الإحباط لدى السلطات والشركات الجزائرية.
أمام هذا الوضع، طلبت الجزائر في العديد من المناسبات مراجعة اتفاق الشراكة لكي ينعكس بشكل أفضل على الواقع الاقتصادي الحالي والمصالح الوطنية. تصر السلطات الجزائرية على أن الجزائر عام 2024 ليست تلك الجزائر عام 2005، وأن السياق العالمي والأوروبي أيضًا قد تغير. وهي تدعو إلى اتخاذ تدابير لإعادة التوازن في التبادلات التجارية،
و في انتظار الرد من المؤسسة الأوروبية القارية استطاعت الجزائر أن تستثمر في التصدعات الناجمة عن المنافسة الشرسة بين بعض دول الإتحاد فيما بينها من خلال إبرام اتفاقيات ثنائية استرتيجية قد تعقد الأمور بالنسبة للمفوضية الأوروبية خاصة و أن تلك الإتفاقيات تمس قطاعات حيوية لتلك الدول و يتعلق المر بإمدادات الغاز و مشاريع الطاقة البديلة
هل يستطيع تبون أن يقنع الدول الإفريقية المتضررة من اتفاقيات التجارية مع أوروبا للتخندق في مواجهة التحديات مع القارة العجوز؟
لدى البلدان الأفريقية فرصة فريدة لإعادة التفاوض على شروط الاتفاقيات التجارية الموقعة مع الاتحاد الأوروبي في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وفي مواجهة العديد من التحديات، قد تكون أوروبا في موقف ليس بالسهل كما في بداية القرن، لمقاومة المطالبات الجزائرية و الإفريقية في جبهة موحدة و على أقل تقدير منسقة.
والواقع أن الوضع الاقتصادي والجيوسياسي الصعب في أوروبا يمكن أن يعمل لصالح البلدان الأفريقية. وكما حدث مع روسيا، فقد خلفت السياسات التقييدية التي انتهجها الاتحاد الأوروبي تأثيراً سلبياً غير متوقع، فهددت إمداداته من الطاقة وقدرته التنافسية في مواجهة المنافسة العالمية حد من قدراتها التفاوضية مع الولايات المتحدة و الشركات العالمية إلى حد وضع سيادتها الإقتصادية و المالية على المحك.
وأمام الدول الأفريقية، وعلى رأسها الجزائر، الفرصة لتشكيل كتلة صلبة للمطالبة بمراجعة شاملة لهذه الاتفاقيات التجارية غير المتوازنة. ويمكنهم الاعتماد على أجندة الاتحاد الأفريقي 2063، التي تهدف إلى تحويل القارةإبى شريك اقتصادي و ليس مصدر للمواد الخام فحسب.
وتظهر الأمثلة الكمية أن هذه الاتفاقيات لم تحفز التنمية الاقتصادية الأفريقية بالقدر الكافي. بل على العكس من ذلك، كثيراً ما أفادت الشركات الأوروبية بشكل أكبر، على حساب الصناعات المحلية. وفي مواجهة صعود لاعبين آخرين مثل الصين وروسيا وتركيا والهند في السوق الأفريقية، تجد أوروبا نفسها في موقف ضعف نسبي.
و لم تخفي الكثير من الدول الإفريقية كالجزائر والسنغال و مالي و النيجر و بوركينا فاسو و تونس على أفريقيا عزمها الركوب على موجة التغيرات الجيوسياسية الجذرية الحاصلة لإعادة التفاوض على شروط أكثر عدالة تسمح لها بتحقيق أجندة التحول الاقتصادي المندمج والاجتماعي بالكامل.