للإعلان
الجزائرعربيمغرب عربي

الحراك الشعبي بين حقيقة التغيير و شعبوية التفكير

بقلم : محمد الونشريسي

إن تاريخ الثاني و العشرين فبراير كان مختلفا تماما عن سابقته من محطات الجزائر المستقلة،تاريخ صنعه الشعب الجزائري بصورة عفوية، ممزوجة بالتوجس من محن سابقة، و جاء ليعبر عن حالة متقدمة من اليأس التي أصابت الجزائريين جرّاء أفعال لعصابة عاثت في الجزائر فسادا لعقدين الزمن،حيث لم يجن الجزائريون خلالها سوى التذكير بسنوات الدم الحمراء والفقر و ارتفاع الضرائب و اختلال المنظومة التعليمية و تقلص في احتياطيي الصرف الى مستويات دنيا و تفشي الفساد في كامل أوصال الدولة ،مع ارتفاع رهيب في مستويات الحرقة و غيرها من المحن.

و كما يقال للصبر حدود و لكل بداية نهاية، فالجزائريون انتفضوا بعد أن وصلوا إلى درجة الاحتقان، لتكون العهدة الخامسة لرجل لايتكلم و لا يتحرك منذ سنوات القطرة التي أفاضت الكأس و السراب الذي عمى بصيرة العصابة و قادهم نحو الهلاك ، ليجعل الجزائريون من جمعة 22 فيفري 2019 يوما و موعدا للتعبير عن مطالبهم بالتغيير و رفضهم العهدة الخامسة جملة تفصيلا ، مؤكّدين بذلك أن ضمير هذا الشعب لازال صاحيا لتبدأ النداءات جهارا بالتغيير الجذري للنظام و رموزه.
لكن مع الجمعات المتتالية و استمرار الحراك بدون قادة يؤطرونه و لا أفكار واضحة تحدد مساره، أصبحنا نخاف أن يتحول الحراك السلمي إلى عراك و أن تتحول الأحلام الى آلام و أن تغرق الجزائر في رمال السياسة المتحركة بتضليل و بهتان يُقدم في ثوب النصيحة من قبل بقايا العصابة، لأننا أحسسنا و تيقننا بأن المطالب المعبر عنها لم تعد تمت بصلة لمطالب الشعب الجزائري و أنه لا سبيل لتحقيقها في الواقع لأنها بكل بساطة أضحت مطالب تعجيزية دوّنتها فئة اخترقت الحراك، هدفها الأول و الأخير الدفاع عن آخر حصونها و الذهاب بالبلاد إلى مجلس تأسيسي و فراغ دستوي يطيل عمر الأزمة و يمنح المزيد من الوقت لبقايا العصابة كين ترتب دفاعاتها و تنقض على الشعب من جديد.

من الذي اخترق الحراك؟

إن المطالب التي عبّر عنها الشعب الجزائري في الجمعات الأولى للحراك كانت مطالب واضحة و محددة و قابلة للتحقيق لحد كبير، مطالب لشرعيتها احتضنتها المؤسسة العسكرية و قطعت على نفسها عهدا بأن ترافقها حتى تتحقق كاملة غير منقوصة، مهما كلف ذلك من ثمن و تضحيات.
موقف تاريخي منح قوة أكثر و عمرا أطول للحراك الشعبي و جعله يتطلع لمستقبل أفضل و يثق في نفسه و يتمسك بمطالبه بل يثق أكثر في مؤسستة العسكرية التي لم تخذله يوما و كانت دوما إلى جانبه في السّراء و الضّراء، غير أن هذا الموقف الوطني العفيف و هاته الوحدة أزعجت و هددت مصالح بعض الجهات و الدول بعينها، مما جعلها تسارع الى تنشيط خلاياها النائمة التي استفادت من ريع النظام السابق من أجل إجهاض كل ما تحقق، لتبدأ مخططاتها الدنيئة برفع سقف المطالب تحت شعار “يروحو قاع” الى حد التعجيز و كذا محاولة التشكيك في لحمة الشعب بجيشه و الأكثر من ذلك استهداف المؤسسة العسكرية و رموزها في رغبة صريحة منها لجرّ البلاد الى حالة الفوضى و البلبلة و اللاأمن و هو ما يتنافى قطعا مع مطالب الحراك الشعبي.
إن أمثال طابو و زيتوت و أمير ديزاد و غيرهم من الأبواق الناعقة و من ينعق في فلكهم من الخونة و أصحاب النفوس المريضة و الحاقدة، حاولوا أن يركبوا صهوة هذا الحراك في غفلة من الشعب لينصبوا أنفسهم فرسانا عليه عن طريق مجلس تأسيسي بعيدا عن صندوق الاقتراع، لكن نواياهم الدنيئة و أطروحاتهم الخبيثة التي لا تخدم مصلحة الوطن، فضحتهم و عرّت حقيقتهم التي هي في النهاية خدمة مصلحة أمهم العاهرة فرنسا، و التي جعلت منهم مجرد أبطال من ورق و معاول هدم لتحطيم أركان الدولة الجزائرية، فالشعب الجزائري الذي عجزت فرنسا بكل سياساتها الناعمة و العنيفة أن تنال من وحدته كيف لأذنابها أن يفلحوا في تحقيق ذلك؟

لماذا استهداف المؤسسة العسكرية؟

لقد كانت و لازالت المؤسسة العسكرية السند القوي للشعب الجزائري في أوقات المحن و الأزمات، تحفظ حدوده و ترعى أمنه،حتى جاء حراك 22 فبراير ليؤكد صدق ذلك ، فالحراك كان سيُجهض منذ البداية لولا موقف المؤسسة العسكرية المساند له و التي منحته الحصانة. و الذي بفضله أيضا تحررت يد العدالة من قبضة الزمرة الفاسدة و تحققت الكثير من المطالب بل و أكثر مما كان يٌطالب به في بداية الحراك لدرجة أن أصيب الجميع بالدهشة و الذهول من هول ما تحقق.
إن المستقرئ و المتتبع للأحداث بتمعن، يدرك أن المؤسسة العسكرية و من منطلق ولائها و إخلاصها للوطن و بعيدا عن أية طموحات سياسية كما حاول أن يروج له بعض أذناب العصابة، تحرص دوما على تقديم اقتراحات للخروج من الأزمة في إطار الدستور وفي أسرع وقت ممكن، لأنها تعي جيدا مآلاتها و انعكاساتها الأمنية و الاقتصادية و الاجتماعية على الشعب الجزائري.
إن هذا الحس الرفيع و الموقف الحكيم النابع عن قيادة الجيش ليس بغريب عن قيادة نوفمبرية تقدر أمانة الشهداء حق قدرها و لم يكن إعتباطيا و لا وليد الصدفة بل هو نتاج و رؤية متبصرة و استشرافية لكل الأوضاع الداخلية و الخارجية التي تحوم بوطننا، و أيضا هو موقف نتاج الخبرة و القراءة الجيدة و العميقة لأحداث سابقة و إستخلاص الدروس و العبر منها،مما مكّن بلدنا العزيز من الحفاظ على أمنه و إستقراره بعد جمعات متتالية من الحراك و بدون أن تراق قطرة دم واحدة.
إن بقاء المؤسسة العسكرية اليوم، قوية و موحدة و ملتحمة بشعبها، هو مادفع المتآمرين على بلدنا في الداخل و الخارج الى نسج الأكاذيب و محاولة تغليط الرأي العام و إيهامه بأن الجيش سيفُشل حراكه، مسخّرين لتحقيق ذلك كل الوسائل و السبل من مواقع التواصل الاجتماعي و بعض الجرائد و القنوات الاعلامية و حتى بعض الأقلام المأجورة و الوجوه السياسية القذرة التي باعت ضمائرها و شرفها لمن يدفع لها حتى و لو كان ذلك على حساب الوطن متناسية أن الوطن لا يباع و لا يشترى.

بين سندان الشعب و مطرقة القضاء تُنسج ملامح مستقبل جديد لغد مُشرق

إنّ ما حققته العدالة الجزائرية من تحرر في فترة وجيزة في أعقاب الحراك الشعبي، يؤكد حجم الأغلال التي كبّلتها لسنوات طويلة من قبل عصابة امتهنت كل شيء إلا حب الوطن، عصابة خذرت الشعب بمخذر اسمه إصلاح العدالة، الأكيد أن العدالة تم اصلاحها و لكن لحماية و خدمة مصالح العصابة و عرابيها فالجنايات مثلا حُولت الى جنح و كل ملفات الفساد تم تغييبها و الزجّ بمن حرّكها في دهاليز السجون حتى لا يتجرأ بعد ذلك أي مواطن نزيه أن يتفوه بكلمة حق واحدة، و هكذا استبيح المال العام و ضاعت خيرات البلاد و تم الاستحواذ على أملاك الدولة من أموال و عقارات و شقق و أراضي فلاحية و غابت دولة القانون لتحل محلها دولة موازية، دولة يُحركها الهاتف و تُتقاسم فيها الارزاق و الوزارات و و و و و بحسب درجة الولاء و بلا حسيب و لا رقيب و يرمى بالبقية الباقية من الفُتات الى بقية العبيد من الشعب حتى يلهو بها ألى أجل غير مسمى.
إن اقتياد تلك الزمرة الفاسدة و من كان معها الى السجون قد يُشفي غليل الشعب عن كل ما عاناه من ويلات و محن، و يمنح الأمل بعهد جديد تكون فيه الجزائر ملكا لأبنائها، و لكن ذلك لا يجب أن لا ينسينا بأننا في بداية الطريق فقط و أننا مقبلون على مرحلة طاحنة تضيق فيها الهُوة مع أعداء الوطن و تصطدم المصالح و سيكون فيها البقاء للأصلح و للشعب المخلص لوطنه.

أين هي النخبة الخيرة من كل هذا؟

غريب هو أمر النخبة الجزائرية اليوم في داخل الوطن و المهجر ،التي رغم كل الدعوات التي وُجهت لها بضرورة تحمُل واجبها و تحمل مسؤوليتها التاريخية أمام الوطن، بتنوير الرأي العام المغلوب على أمره بحقائق الأمور و مآلاتها، إلا أنّها في موقف يدعو إلى كثير من التساؤل، ظلّت مكتوفة الأيدي لا تحرك ساكنا إلاّ القلّة القليلة منها التي تجتهد بكل الطرق مع الخيرين من أبناء هذا الوطن في الدفاع عن مصلحة الأمة مهما كلّفها ذلك من هجمات مسعورة من قبل بقايا العصابة. هذه الأخيرة التي بدأت في الضمور و التلاشي و مع ذلك تستميت حتى النفس الأخير و بكل الطرق في الدفاع عن مصالحها و مصالح من يمنحونها الأموال و التأشيرات و غيرها من الامتيازات الظاهرة منها و الباطنة.
إنّ كل ماتحقق من مكاسب في أعقاب الحراك خاصة في محاربة الفساد و المفسدين، يحاول في يأس المستفيدين من رمز الدولة العميقة و رمز العصابة التشكيك فيه حتى و إن كان هؤلاء ورموز الفساد يقبعون في سجن الحراش مع المجرمين، و الانتقاص من قيمته تارة باسم الجهوية و تارة أخرى تحت غطاء تصفية الحسابات و تارة أخرى بضرورة تأجيلها في سلم أولويات المرحلة الراهنة حتى يتمكن هؤلاء المفسدين الذين أُخذوا على حين غرة من الهرب و الافلات من يد العدالة أو ترتيب أوضاعهم، غايتهم في ذلك ضرب مصداقية المؤسسة العسكرية بطريقة غير مباشرة و سلبها هذا الموقف الوطني المتماهي مع مصلحة الشعب منذ بداية الحراك، و هنا وجب التأكيد على الدور الجوهري الذي يجب أن تقوم به النخبة الخيرة من أبناء الوطن في دحض كل ذلك التضليل و المغالطات.
إن معركة اليوم هي معركة وعي و قيم و لا تقبل القسمة على إثنين أو الوقوف في الوسط، مع أو ضد الوطن، و هي من المعارك الحاسمة في حربنا ضد عدو الأمس و اليوم و هي امتداد في بعدها المعنوي لمعارك ثورة التحرير المجيدة، فتحقيق النصر لا بديل عنه لاستئصال هذا الورم الخبيث الذي نخر في جسد الدولة الجزائرية الفتية و الذي جعلها حبيسة التخلف و دون طموحات الشهادء الأبرار، و جعل منها و للأسف و بتواطؤ من خونة الوطن مستعمرة جديدة يتولى شؤونها بعض أبناء هذا الوطن الفاسدين الذين يتنافسون في تقديم الولاءات لمصلحة أجندات خارجية و الذين هم السبب فيما تعيشه الجزائر اليوم من ضعف و هوان.

كيف نحافظ على كل ماحققناه من انتصارات؟

إن البحث عن حلول للأزمة الرّاهنة خارج الدستور سيكون بمثابة الضربة القاضية لكل ما تم إحرازه من انتصارات. و سيُرجع ببلادنا الى أسوء مما كانت عليه، ذلك أن العمل خارج الدستور و بعيدا عن الانتخابات كمعيار حقيقي يعبر عن الارادة الشعبية، سيجعلنا نتيه لسنوات في البحث عن شخصية توافقية لا تنال الاعتراف التام من قبل الشعب و بالتالي ستجهض هاته الهبة الشعبية و تغذى معها النزاعات الجهوية و حتى القبلية و سيجثُم اليأس من جديد و بحدّة أكبر على نفوس الجزائريين و الذين لن يحييوا بعده أبدا.
إن دعوة المؤسسة العسكرية للتقيد بالدستور نابع من كل هاته التوجسات التي لا تُنبؤ بخير و التي ستعصف بأمن الجزائر و استقرارها و تجعله في مهب الريح و معه ستتناثر أوراق قضيتنا في مكاتب و أروقة الأمم المتحدة و الهيئات العالمية و لن نجني من وراء ذلك سوى الخراب و الدمار و لنا في مايحدث في بعض الدول العربية الشقيقة خير مثال على ذلك.
إن الأولوية الآن أن نثق في كل مؤسسات الدولة و على رأسها المؤسسة العسكرية و أن نضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار و أن نتحاور و نستمع لبعضنا البعض دون تهميش أو إقصاء، و دون انتقاص من قيمة أحد حتى نقطع الطريق أمام كل أولئك المتربصين بوطننا ففي ضعفنا قوتهم و في قوتنا ضعفهم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى