سفيان بارودي
لعل الظاهرة الأهم التي تبثها الحراك الثوري الشامل في الجزائر هو توضيح مفهوم جوهري،متداول، وغامض عبر الأزمنة في علوم الإنسان و فنون السياسية : “الشعب” الذي كان اصطلاحا نظريا بالغت في التغني به و تجميله التيارات الرومانسية ثم أفرطت في تمجيده و تعظيم خصوصياته الراسخة القوميات التوسعية الاقصائية كما طعنت في واقعيته العملياتية المادية التاريخية باستعمال تفسيرات عدة أشهرها منهج فلسفة التاريخ الحديثة التي رسخت مبدأ الطبقات،موازاتها و صراعها المستدام على حلبة المجتمع البشري و بالتالي استنتاج “ضعف علمية”و “خيالية “فرضية الكائن الاجتماعي “الأسطوري” المكنى شعبا.
الشعب في قلب الميزان السياسي و الكفاح الاممي
هذا حتى ظهرت للعيان المجردة صور الشوارع الجزائرية المكتظة عن آخرها بالحشود البشرية من الشمال إلى الجنوب و من الشرق إلى الغرب في هذا البلد المترامي الأطراف و الموحد الطموح و المطاف. ما لمع حدس ابن خلدون في إثبات مركزية ملكة “العصبية” في حسم الصراع الاجتماعي السائد في العمران البشري و رسخ فكرة ماركس في “الحزب التاريخي” الذي يمثل “الحركة الذاتية للجماهير الكادحة في سبيل انعتا قها “.
بينت الحركة الجماهيرية الراهنة في الجزائر وعي المصير المشترك و حس التاريخ الجماعي و إرادة التشييد ألتعاضدي لغد أفضل في ظل رحمة الاختلاف و التنوع الحركي الثقافي و الفكري،ما أسس لهوية وطنية حية تنمو و تتطور لتحصين امة ناشئة من شر الفتنة و التقسيم.فكانت فطنة سياسية وشبا نية ترجع إلى الأساس لاستكمال التمتين, لقبلة المد التحرري القادم من الجنوب و لمواصلة التمكين.,كما كان ارتفاع سقف الوعي بالخبرة النضالية المتراكمة بمثابة خير تكوين عبر أسابيع عدة تسارع التاريخ خلالها و ساد سلوك تجنب المخاطر الخارجية بسلمية الدبلوماسية الشعبية , كما أنتج الفهم الحسي بتعقيد السياق ذكاء عفويا حذرا شل تربصات كل أطراف الكمين.
هكذا كان الأمس الثوري قائما على يد جيل الغد و الذاكرة المجاهدة حاضرة في درب المستقبل العادل للكل بتضافر عمل الجميع لاستكمال بناء أمجاد الأجداد و وفاء لدماء شهداء كل الكفاحات ؛كما يمثل الحضور الدائم للراية الفلسطينية رمز التشبث بالقضية المركزية و بالمبادئ الراسخة في دعم القضايا العادلة و نصرة كفاح الأحرار و المستضعفين عبر العالم ابتداء بذوي القربة في الريف المكبل و في الصحراء الغربية و في بلاد السودان و اليمن الصامد و لبنان المقاومة و صولا الى فنزويلا الوفاء و في كوريا الوحدة ضد جور و غطرسة الاستعمار و قوى الدمار الخارقة للأوطان المعذبة للشعوب و المدمرة لأرضها و سيادتها
سقوط حكم العصابات و تفكيك اقتصاد البارونات المعولم
هكذا سقطت )العصابة( و تهاوت أعمدتها و كشف الحجاب على نجاسة فعلها الذي يشمل النسيج الاقتصادي المرتبط كليا بالتركيبة البيروقراطية للدولة التي تحتمل الإدارة و الجهاز السياسي التنفيذي ،التشريعي و القضائي المتشعب في الحقل الإعلامي ،الثقافي و في المعارضة الشكلية(التوثيقية)
إن العلاقة الحركية بين هذه المؤسسات تمثل ما يصفه الجميع بالنظام أو ما اجمع الجزائريون على حتمية إعادة تشييده بعدما علم الجمع إلزامية دحره بالنظر إلى درجة تسوس أطره و عمق فساد عرابيه و حجم تدنس خدمه و حقيقة حلفائه و درجة خطورة حساباته
هذه العصابة ( التي باتت تشكل قلب النظام الذي كان يتحكم في السلطة (المتمثلة في اسم، سمعة و خاتم الرئيس السابق) و هذه السلطة التي كانت تتحكم في كامل اذرع الدولة و ترسم خطوط سير الأمر الاقتصادي و الاجتماعي و الدولي بما لا يتناسب مع مصالح الجماهير الشعبية (التخاذل، التقشف، الاحتكار، الفساد، الظلم، الرداءة، الضبابية ,الهشاشة، البطالة… و بما يتنافى مع العقل الاستراتيجي الوطني
.فمنذ على الأقل خمس سنوات بدت واضحة نية و بوادر تفكيك الدولة القومية الاجتماعية بكل الوسائل المتاحة, كما بدت جلية ملامح استقواء الطابور الخامس بتواطؤ كثير من كبار “الإطارات الليبرالية” المنفردة بالصلاحيات الرسمية و باستعمال النفوذ.ما سمح بتحويل المال العام و تبديده بالتحكم الخاص في المشاريع و السوق الوطنية , ما هيأ تخصيص جهاز الدولة و تملك الرساميل السيادية و ا لمرافق العمومية لإشباع لهف العصابات المفترسة المخربة التي حاولت مرارا إخضاع القوى المنتجة لقانون الربح الجائر و منطق” الرّق المعاصر”, لكن الشعب الجاهد و الجماهير الشغيلة قاومت بصبر و حكمة طوال سنوات خلت على كل الجبهات و وقفت سدا منيعا أمام هجمات همجية منطق السوق السلعية و الهيمنة المالية
فجرم الاقتصاد- السياسي مع سبق الإصرار يبدو واضحا عندما نلتفت لدرجة تكسير القطاع العمومي المنتج(بيع العقار الصناعي،الخصخصة الوحشية،المحاباة التجارية, المحسوبية…), صرامة تطبيق وصفات صندوق النقد الدولي المضادة للجماهير الذي اشتهر الوزير الأول السابق صاحب المهمات القذرة المكروه شعبيا و المتابع قضائيا بتعلقه المتعصب بها. كما تم إضعاف التحصين على قطاعات حساسة مثل الصناعة المنجية بتخفيف الضوابط البيئية الوقائية و أخرى حيوية كالموارد المائية المسيرة عشوائيا و قطاع الفلاحة و التغذية أين غرست جذور التبعية للسوق العالمية عميقا بعد إتباع برامج البنك الدولي و إثراء عصابات النهب على ظهر الشعب الجاهد و بأمواله
إذا نظرنا إلى النشاط المصرفي المسير من الدولة التي تمكنت العصابات المندسة في أجهزتها عن طريق البنك المركزي المصارف العمومية من منح مبالغ خيالية على شكل قروض تم تهريب أكثرها إلى الملا ذات الجباية الأجنبية و لم يتم تسديد سوى جزء ضئيل منها لحد الساعة , كما فوجئنا باكتشاف نظام مالي مواز تقوده بنوك عربية وغربية خاصة و خبرات دولية و نخب إدارية محلية في سبيل التصحير الممنهج للمخزون الوطني و دفع الأوضاع نحو التأزم و ربما البلقنة و الفوضى الخلاقة . لكن الشعب تفطن و تيقن
و أما عن الجباية فلاحظنا أن العامل يدفع ضريبة دخله العام من منبع راتبه الهزيل و أن اغلب كبار المتعاملين الاقتصاديين استفادوا من امتيازات خيالية و على ظهورهم مستحقات بمليارات الدولارات تنتظر التسديد
هنا نتساءل عن العدالة الضريبية و يزول هلعنا على حال أرباب المال الفاسد المسجونين تحت ضغط الإلحاح الشعبي الذي ينتظر محاكمة الخراب ألمقاولتي و الخيانة الممنهجة في تهريب حق شعب بأكمله للاستثمار عند أعداء الأمة و المضاربة على ألام مجتمع ما طال يقاوم قوى الاستدمار و الخراب بشرف و شجاعة برغم الصعاب و المكائد
سوف نترقب محاكمة الاقتصاد السياسي ذي المنهج الليبرالي الجديد في الجزائر،هذا المذهب الذي ميز حقبة الفساد و الدمار الشامل للمجتمع الإنساني, لقواعده و قيمه، لشروط قيامه و للبيئة التي تضمن تنظيمه و استمراره في هذا العالم القديم العاجز الذي يغرق في تناقضاته و في دماء الأبرياء وينهار تحت ثقل مقاومة الشعوب من اجل واجب العدالة و الحق المشروع في الحياة الكريمة
الدفاع الجماهيري عن الدولة الاجتماعية
ظاهرة أخرى تستحق التشخيص هي التعلق الشعبي بالملكية الاجتماعية و بالمرافق العمومية، ما تجلى في حرص الجماهير الكبير على الحفاظ على الأملاك العامة و حتى الخاصة حيث يبرهن هذا السلوك الكلي و الدائم اليقين السياسي الدقيق و الإدراك العميق بمعنى الدولة الاجتماعية المرسخ في بيان الفاتح نوفمبر و على الإحساس بالمسؤولية التاريخية في الدفاع على مكسب الاستقلال،الحرص على السيادة الوطنية و استرداد و تعميق سيادة الشعب على مقوماته بممارسة الحق الجماعي المشروع في التسيير التشاوري التشاركي وكذا الرقابة الشعبية الدائمة من اجل الظفر و الاستفادة العادلة من طبيعته و عمله و هندامه و خيراته، من عمرانه و ثراته
وان مظاهر التكافل و التضامن الشعبي شاعت ملامحها في الاعتصامات و الإضرابات و المظاهرات و شوهدت في كامل التراب الوطني و في كل القطاعات و لعل جذورها تعود إلى مكتسبات العقلية الجموعية الأصيلة, و إلى مبادئ الإسلام الحنيف السمح المعتدل المنتشر في بلادنا وعساها تصب في عمق الأزمنة البالية في صلب الكفاحات التوحيدية التي شهدت منطقتنا تاريخيا ضد التجبر الفرعوني و الكليانية القيصرية, وبدون ادنى شك إلى ما عاش من قيم اشتراكية ميثاق الجزائر الافرواسيوية المناهضة للاستعمار و الامبريالية
أثبتت الحركة الشعبية الحاشدة و المستدامة في الجزائر المسيرة ذاتيا و النابعة وعيا سياسيا المتشبعة حضاريا والراسخة إنسانيا, المبتعدة عن كل أشكال الإقصاء والميز و لو كره الباغضون
على قدرة الجماهير الشعبية في قلب موازين القوى الاجتماعية و إخضاع قوى المال الفاسد و الأعمال العكرة المرتبطة عضويا بالدوائر الخارجية المهيمنة على النظام العالمي الرأسمالي الامبريالي (الصهيو-أمريكي) الربوي-المصرفي الممركز غربيا-أطلسيا و المدعم خليجيا.فعندما يقول الجمهور الثائر سلميا بوجوب إسقاط عصابة البطش و النهب التي باتت تسطو على مقدراته و ثرواته وتدمر طاقاته و أماله و تحارب حتى مبادئه و تاريخه و عندما يليه الجيش الشعبي الوطني باتهام العصابة بالتآمر على الشعب و دولته بهدر أمواله و بإضعاف مؤسساتها بكبح نموها و بتلغيم أسسها. فهنا ينتهي النظام الفاسد و تدخل السلطة في أزمة خانقة،حيث ليس في إمكان من في اعلي الهرم استكمال تسير الأمر و عندما ترفض الطبقات السفلى و المتوسطة كل رموز الحكم و تطالب بمحاسبتها و عندما تصطف المؤسسة الوحيدة التي تمتلك شرعية وظيفتها وراء مطالب الثورة الشعبية فان الموازين قلبت و الخطوة الأولى قطعت
فالمفهوم هو حتمية حلف استراتيجي وجودي بين الأقطاب القومية الشعبية تحت لواء الجماهير الشعبية المتحركة وطموحاته الثورية الشرعية في حماية مكاسب الاستقلال و تعميق محصلة النضالات الاجتماعية بصدد الاستجابة للحاجة الشعبية بإعادة التشييد المؤسساتي السليم وتكريس مبدأ التخطيط التنموي الممركز ذاتيا تحت ظل الدولة الاجتماعية و سقف المساواة المدنية, هذا في مواجهة قوى الاوليغارشيا المحلية الجهوية و الدولية بأنظمتها الرجعية الاستبدادية (الممالك الوراثية، القوى الاستدمارية التوسعية, هيئات الهيمنة المصرفية، الإمبراطورية العسكرية…)،نخبها الفاسدة و أفكارها الإجرامية, و نظامها الاقتصادي السياسي القابع في أزمة تآكله و انحلال هيكله الغاصب للحقوق الأساسية, الكارثي للبيئة والمفقر لغالبية الإنسانية