الروبل أو قطع امدادات الغاز… كيف أعلن بوتين عن ميلاد عصر العملات الجديد؟
منذ إعلانه بدء الحرب على أوكرانيا أصبحت خطابات فلاديمير بوتين موعدا عالميا ترسم فيه كل مرة ملامح جديدة لصراع ربما مركزه ليس أكرانيا أو أوروبا فحسب بل البورصات والأسواق العالمية القلب النابض للهيمنة الأمريكية منذ معاهدة بريتن وود سنة 1945 التي جعلت من الورقة الخضراء الدولار سلاحا بأيدي الدولة الأمريكية العميقة. قد يكون التقدم نحو اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا متسارعًا، ولكن بالنسبة لأسواق الطاقة العالمية ; للسيادة المالية ليس الأمر كذلك, فقد تم تجاوز نقطة اللاعودة بشكل قاطع.
كتبه | أحمد زكريا
توقيع الرئيس الروسي على المرسوم المتعلق بالدفع بالروبل مقابل الغاز المباع إلى “دول معادية” هو بمثابة جر الدول الأوروبية للرضوخ للحلف الصيني الروسي من أجل نظام عالمي جديد او منافس أو على أقل تقدير، بديل. نظام قد يقضي على الدولار الذي قد يفقد قوته “الوهمية” بالنظر إلى ديون الولايات المتحدة – 30 تريليون دولار- التي تراكمت عبر عقود من الزمن امتصت بها أمريكا كل ما تنتجه البشرية دون مقابل.
كما نعلم، فإن القائمة تشمل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة وكندا واليابان. وقال بوتين في الخطاب الذي بثه التلفزيون الحكومي “سنقدم للجميع نموذجا واضحا وشفافا فما يكون هذا النموذج الذي تسترجع روسيا دولاراتها المحتجزة بفعل العقوبات؟ كما كرر بوتين أن “كل من لا يدفع سيعتبر متخلفا عن السداد مؤكدا ان روسيا “لا تمنح الصدقة” في تعاملاتها التجارية
تضخ الدول الأوروبية نحو مليار دولار في خزينة موسكو للغاز والنفط كل يوم. ويشكل هذا القرار صدمة كهربائية لأوروبا وإجراء سيعزز قيمة الروبل لإنقاذ الأسر الروسية المذخرة ويعمق إرادة دول بريكس للتخلص من تأثير الدولار واليورو على الأسواق العالمية.
والخطوة هاته تلزم الغربيين بفتح حسابين لدى بنك غازبروم أحدهما بالعملة الروسية وأخر باليورو. بعدها تتدخل غازبروم بنك لتحويل المبلغ إلى روبل بسعر يحدده البنك المركزي الروسي. في حين منحت المفوضية الحكومية للاستثمارات الأجنبية, سلطة وضع استثناءات محتملة.
الدول الغربية لازالت متمسكة بمبدأ الدفع بالأورو والدولار الذي يمكنها تجميده في أي وقت تريد كما جمدت ما يفوق 348 مليار دولار من قبل.
وقال الوزير الفرنسي برونو لومير أمس “لن نقبل: العقود المبرمة باليورو يجب الوفاء بها باليورو”. كما ذهب نظيره الألماني روبرت هابيك ألى أبعد مشيرا أن ألمانيا مستعدة لأي سيناريو، بما في ذلك حظر الغاز: “أهم شيء هو عدم نقل فكرة أنه يمكن ابتزازنا”,
رئيس الوزراء الإيطالي، ماريو دراغي، تحدث و كأنه متقبلا للأمر الواقع : “قال لي بوتين إن العقود القائمة لا تزال سارية، لذا ستواصل الشركات الأوروبية الدفع باليورو أو الدولار… أعتقد أنه ليس من السهل على الإطلاق تغيير عملة السداد دون تغيير العقود”. مضيفا أنه من الضروري تسقيف أسعار الغاز لا يمكن لروسيا بيع الغاز لأي متعامل آخر عير أوروبا.
ومن ِشأن قرار موسكو تشتيت التحالف الأوروبي الهش والذي يعتبر أقرب منه خضوعا للإرادة الأمريكية من حل سيادي, خاصة وأن درجة ارتباط اقتصادات كل دولة بالغاز الروسي متفاوتة،
كما تأبى النخب الأوروبية رؤية أن من وراء هذا القرار ليس البحث عن تكديس الدولار أو الأورو فحسب بل أرادة واضحة في زعزعة هيمنة الدولار وبناء سيادة مالية متينة، بدأت فعليا بين بلدان المناطق الاقتصادية ألأسيوية وبلدان البريكس والتي تتربع على أكثر من 30 بالمائة من الاقتصاد العالمي وثلثي سكان المعمورة.
ولعل أول المتضررين سيكون ألمانيا القلب النابض للاقتصاد الأوروبي، فحسب الجمعية الألمانية للصناعات الكيميائية ودقت ناقوس الخطر في حال قطع الامتدادات، مشيرة انه حتى ولو توقف الإمداد لفترة محددة فأن العودة إلى النشاط سيتطلب أشهرا مما يهدد بتراجع النشاط الاقتصادي الأوروبي.
وكان بوتين قد كرر التهديد أمس مؤكدا أن هذه “خطوة نحو السيادة المالية لروسيا الاتحادية ليست قضية غاز فقط مشيرا أنه يجب ألا ننسى أن تدفق الغاز إلى أوروبا لا يمول روسيا فحسب، بل أوكرانيا أيضًا”. للعلم فأنه رغم الحرب, لازالت تعمل الشبكة دون توقف مرورا بأكرانيا، ووفق معهد أكسفورد لدراسات الطاقة، تجمع حكومة كييف حقوق عبور تبلغ مليار و200 مليون دولار سنويًا. 1٪ من الناتج المحلي الإجمالي الوطني. و هذا رقم كبير ومفهوم بالمقارنة مع الرسوم التي تدفعها شركة غازبروم إلى البلدان الأخرى. 200 مليون دولار لبولندا. صفر إلى بيلاروسيا
الحرب على الدولار أو الصدمة النهائية …
في عام 1971، وضعت الولايات المتحدة حداً لقابلية الدولار للتحويل باذهب من أجل أن تكون قادرة على تعويض عجزها عن طريق طبع النقود دون التعرض لسداد دائنيها بالذهب. وما زالت كلمات وزير الخزانة جون كونيلي في هذه المناسبة تتردد في أذهان القادة المهتمين بالحفاظ على السيادة الاقتصادية الوطنية: الدولار عملتنا وأصبحت مشكلتكم من اليوم فصاعدا “. واليوم يتجاوز حجم التعاملات اليومية بالدولار على المستوى الدولي 6000 مليار في اليوم.
لفهم كيف تمكن الدولار من ترسيخ هيمنته على الاقتصاد العالمي، ومدى ارتباطه بالأزمات والحروب، علينا العودة بالزمن إلى القرن الماضي مع نهاية الحرب العالمية الثانية أين تم إنشاء نظام بريتون وودز, أين وضعت الولايات المتحدة ملامح هيكل مالي دولي جديد. بناءً على الاتفاقيات الموقعة في عام 1944 من قبل 44 حكومة. هاته المعاهدة تحدد و تنظم النظام النقدي العالمي حول الدولار الأمريكي أصبح بموجبها, العملة الوحيدة التي يمكن تحويلها إلى ذهب. أخذت بعدها أمريكا بشراء مخزونات الذهب مقابل أوراق نقدية لا تكلف 100 دولار منها, سوى 86 سنتا.
انطلاقا من أوت 1971، هيمن الدولار بعد فك ارتباطه عن قيمة الذهب كمرحلة ثانية. في نفس الفترة، تم ربط سعر النفط والطاقة وكذا المواد الأساسية والمنجمية بالدولار. وهذا يعني أن الدول المنتجة لن يكون لها سيطرة على الأسعار أو قيمة الدولار، الأمر الذي يعتمد على مزاج أسواق الأسهم ومؤسسات المضاربة المالية الأمريكية
لا يتردد بعض الخبراء في وصف ما يتبلور منذ إعلان العقوبات ضد روسيا كخطوة دقيقة نحو المعركة النهائية مع النظام الليبرالي الجديد الذي يهيمن عليه الدولار “المقدس”. يبدو أن التنين الصيني والدب الروسي لهما حليف أفضل. أزمة كبيرة يمكن أن تعطل النظام الرأسمالي، بسبب تشبع الأسواق بالدولار والاتجاه التنازلي في معدلات نسب الفوائد. وهما عاملين أساسيين يمنعان تجدده.
ومن الواضح من خلال التدهور المتواصل في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين التي تمتلك أكبر حصة من أصول العم سام من الدولار، أن روسيا لم تتخذ هذه الخطوة دون أخطار بيكين أكبر الشركاء الاقتصاديين لأوروبا. فحسابات البلدين تأخذ بعين الاعتبار حجم الخسائر لكلا الاقتصادين على المديين القصير والمتوسط مقابل ما يمكن جنيه على المدى البعيد.
فقد يكون اللجوء المنهجي والمفرط والمتسرع إلى العقوبات ضد موسكو (5000 إجراء تقييدي)، من خلال استغلال المؤسسات الدولية الخاضعة لسيطرتهم بالكامل، من طرف الأوروبيين بقيادة الولايات المتحدة، يأتي بنتائج عكسية. كما أنه وجه انذار إيقاظ لدول ناشئة أخرى خاصة البلدان المنتجة للنفط والمواد الأساسية الأخرى لتحرير اقتصادها من مزاج الدولار وهيمنة البورصات التي تدور في فلكه. حتى المملكة العربية السعودية وبعض دول “العالم الثالث” لم تعد تخفي انجذابها إلى المجال الصيني والآسيوي وبلدان أخرى طالتها العقوبات الاقتصادية كإيران سوريا فينزويلا كوبا وغيرها،
خططت دول أوراسيا والصين وروسيا وإيران لذلك منذ سنوات عديدة، لكن إعلان الغرب عن شطب روسيا من (نظام سويفت للاتصالات المالية العالمية بين البنوك) كان بمثابة صافرة انطلاق للضرب الدولار في عقر داره. و انخفضت حصة الدولار في التجارة بين روسيا والصين تدريجياً وبلغت 46٪ في الربع الأول من عام 2020 مقارنة بأكثر من 90٪ في عام 2015. وقد شرعت الحكومة الروسية في عملية التحييد التدريجي للدولار من تعاملاتها منذ عام 2014، عندما فُرضت عقوبات صارمة على البلاد ردًا على إعادة التوحيد مع شبه جزيرة القرم
الشيء نفسه فعلته إيران، التي وقعت اتفاقية استراتيجية مع الصين تضعها في مركز سياسة إعادة الانتشار الصين تجاه الجنوب الغربي في مشروع طريق الحرير. كما تمتلك طهران شبكتها المصرفية المحلية الخاصة بها. التي قد يكون تم ربطها بشبكة المنطقة الأوراسية الصينية. كما يتم تنفيذ عملية تحييد الدولار من قبل دول أخرى، بما في ذلك الهند والبرازيل وتركيا الممزقة بين عالمين،
الصين، من جانبها، تقود الطريق بهدوء مقترحة نفسها كمحرك رئيسي لهذا النظام المنافس بعد ضمانه كسب أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون وكذلك غرب آسيا. التي تضم أهم منتجي النفط والغاز كالسعودية والعراق وسوريا وإيران.
مهما كانت آثار الحرب في أوكرانيا، ستظل عملية إزالة الدولار مدفوعة بتحول جوهري في الطريقة التي تنظر بها الولايات المتحدة والصين إلى علاقتهما. على مدى العقود الأربعة الماضية، ساد المنطق التجاري والاقتصادي على المنافسة الاستراتيجية. لكننا في عالم جديد حيث يتفوق التنافس السياسي وحتى الأيديولوجي على الحوافز الاقتصادية. بكل بساطة لأن النموذج الاقتصادي النيو ليبيرالي الغربي، وصل إلى نقطة نهايته لأن دولار لن يجد منطقة أخرى لاكتساحها بالحروب واللازمات التقليدية. وكالقرن الماضي الذي رسمته الحربين العالميتين الأولى والثانية ستكون أوربا المسرح والضحية الأولى لهذا الصراع لانعدام إمكانية خلق السيولة وابتكار مخطط مارشال القرن الواحد والعشرين