مليكة.س
منذ اليوم الأول للتظاهرات العارمة التي تشهدها العاصمة وبقية المدن الجزائرية والأصوات تتعالى محذرة من احتمال انزلاق الأوضاع في الجزائر إلى ما يحمد عقباه، مستدلة عما جرى ومازال يجري في الدول التي مر بها الربيع العربي في السنوات الأخيرة.
جمعة بعد جمعة، خابت آمال من كان يتمنى الفوضى للبلاد، و فرح كل من يحب حقيقة الشعب الجزائري، الذي انتفض على نظام متآكل بالفساد الذي نخره من كل الجوانب.
كيف تحرك الشعب ؟ من حركه ؟ وما المتوقع؟
مهما كان من وراء الحراك الشعبي ، في هبة 22فيفيري التي تساءل الكثيرون حولها ، وأنا واحدة منهم ، فقد أثبتت الأيام أن الشعب كان جاهزا للتعبير عن غضبه ، واستيائه ، و كان ينتظر أية فرصة تأتيه ليعبر عن سخطه وفقدانه الثقة في نظامه السياسي ، الذي سحق مواطنته ، و جعل منه فردا بلا أية قيمة سياسية وطنية كانت أم عالمية .
فالجزائري قد استسلم إلى واقعه المرير منذ أكثر من عشرين سنة،محاولا العيش بعيدا عن عالم السياسة التي عازف عنها بسبب خيباته المتراكمة منذ أحداث الثمانينات ، حين انفجر غضبه ذات يوم أربعاء في ال 5 من شهر أكتوبر من عام 1988.
500 ضحية كان ثمن تلك الهبة الغاضبة التي انفجرت في وجه اللصوص الذين كانوا يحولون وجهة الجزائر تدريجيا إلى المجهول، انتهت بانفتاح سياسي انتقلت على إثره الجزائر من دولة يحكمها الحزب الواحد ، الذي يستمد شرعيته من الثورة ، إلى دولة متعددة الأحزاب ، وكان أسوأ ما في هذا الانفتاح ظهور أحزاب تتبنى الدين أو أحد مكونات الهوية الجزائرية كأساس لبرامجها .
الانفتاح السياسي القصير الأمد انتهى بأنهار من الدماء والدموع ، وبعشرية كاملة ، ضاعت من حياة الجزائريين بين الخوف و الأحزان ، بين شعارات غريبة عن مجتمعنا و أخبار الحرق والهدم والذبح ،وبين أصوات الرصاص و القنابل ،تشتت أثناءها الوحدة الشعبية، بين من كان يرى في الدولة الإسلامية الحل الأنسب لمجتمع ضاعت ثقته في حكامه ، وبين وطنيون يرفضون المساس بمبادئ الجمهورية الديمقراطية الشعبية التي كانت واضحة كخيار استراتيجي لا رجعة عنه ، منذ ثورة نوفمبر المباركة ، التي أفرزت وجود دولة جزائرية وشعب ينتمي إليها .
سكت الجزائريون ،صدموا بهول ما رأوه من خراب واقتتال ، هم الذين كانوا يتعجبون من استمرار الحرب الأهلية اللبنانية لسنوات طويلة من غير مبرر ، رحل الكثير منهم إلى ما وراء البحار بلا عودة ، و بقي الآخرون مصدومون يحملون أثقالا من الآلام في أحشائهم .
لم يكن الوفاق المدني الذي أتى به بوتفليقة عام 1999 إلا مرحلة من الهدوء ، كانت ضرورية لإنقاذ المجتمع من كارثة كانت تهدد وجوده بعد أن انزلقت الأمور نهاية التسعينات إلى مذابح كبيرة في أوساط الشعب مباشرة ، بطرق ملتبسة غير مفهومة ، و لا معقولة ،.أدت بعد فترة إلى استقالة الرئيس ليامين زروال ، بعد أن خاض معارك شرسة ضد التنظيمات الإرهابية في أكثر من منطقة في الجزائر الكبيرة .
كيف سكت صوت الرصاص ، واختفي المسلحون تدريجيا ، و جنح الكثير من المسلحين إلى السلم ن بعد سياسة الوئام المدني التي جاء بها بوتفليقة ؟ أسئلة ليس من السهل الإجابة عليها ، غير أن الكثير من الجزائريين ، اقتنع بأن لا حل للخروج من أنهار الدماء التي كنا نغرق فيها ، إلا سياسة النسيان ، وطي الصفحة ، وإغلاق الملفات نهائيا .
لم يكن كل الجزائريين، مقتنعين بمثل هذه السياسة المبهمة، التي جاءت كالسحر تحل كل مشاكل العنف التي استمرت لأكثر من 10 سنوات، فقد كانوا يتساءلون عن محاسبة مرتكبي الجرائم ؟ و حقيقة المفقودين ؟ ….وبعضهم ظل متمسكا بهذه المطالب إلى الآن .
بعد عشرين سنة من كل هذا، يقوم الشعب من صدمته، مجددا و تعود كل التساؤلات ، و تطرح كل المشاكل السياسية بجرأة .
لم يعد بوتفليقة اليوم هو المخلص الذي أنقذ الجزائر من الدمار كما كان يسوق للشعب منذ قدومه إلى الحكم ، بل أصيح اليوم مجرد رئيس تمددت عهداته إلى أن أصبحت غير مقبولة حتى عند مقرييه ن الذين بقوا يصفقون له إلى آخر لحظة ، واقصد بها يوم 22 فيفير 2019 .
صورة بوتفليقة اليوم لم تعد صورة الرجل الذي أنقذ الجزائر ، بل صورة الرجل الذي أفسد الجزائر ، وسمح بنهبها،وبتحويلها إلى نظام شبيه بأنظمة عربية خليجية خاضعة إلى الدول الاستعمارية وبلا أية سيادة .
فما هي حقيقة بوتفليقة ؟
كثير من المقالات , والكتب ، ينشرها جزائريون هنا وهنا ك ، يتهمون فيها بوتفليقة بتحالفات مشبوهة مع بعض دول الخليج ، و بعض القوى الاستعمارية ، خصوصا فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ، و فتح الجزائر لأوليغاؤشيا رأسمالية خارجية وداخلية على حساب الشعب ومقابل الحفاظ على أمن الجزائر؟ وشروط كانت هذه الدول قد وضعتها له قبل ترشيحه وفرضه على المؤسسة العسكرية في الجزائر نهاية التسعينات.
لا أحب أن أتهم بوتفليقة بشيء في هذا المقال ، لكني استطيع أن أؤكد بعض الأمور ، التي لا تخفى على أحد ، وهي توطيد العلاقة بين الجزائر الرسمية وهذه الدول بشكل كبير و غريب في مرحلة الحكم اليوتفليقي وبطريقة متسارعة و عميقة ، إلى حد إجراء مناورات عسكرية بين البحرية الجزائرية والأمريكية في مياه المتوسط .
أما شعارات الشعب ، فهي بلا اي شك ، تشير إلى الشكوك التي انتشرت في أوساط الشعب ، حول حقيقة هذا الرئيس الذي جاء لينقذ الجزائر بإيعاز من الدول المذكورة .
“كليتو لبلاد يا سراقين “، ” ما كاش الخامسة يا ولاد فرنسا ” وغيرها من الشعارات ، عبارة عن وعي شعب متنامي حول حقيقة غامضة ، قد تمتد جذورها إلى مشاكل التسعينات .
إن الجزائر بلا أي شك ، تتعرض إلى مساومات وضغوطات كبيرة منذ فترة التسعينات ، و هبة الشعب اليوم ، وتوحده حول ضرورة سيادته على وطنه يعتبر فرصة حقيقية لكل أبناء الجزائر قاطبة ، للخروج من مرحلة الضعف ، و الوهن أمام المستعمرين الجدد وأساليبهم القذرة ، المتمثلة في التحكم بمصائر الشعوب ، عن طريق تحريك عملائهم سواء كانوا سياسيين رسميين ممثلين لحكومات تابعة ، بلا توجهات وطنية ، أو عن طريق جماعات إسلامية مخترقة ، مهيأة لإغراق دولها في الخراب ، حين لا تكون حكوماتها تابعة إلى القرار الاستعماري ، أو جماعات انفصالية لتخريب وحجة الشعوب و تسهيل السيطرة عليها .
فكل ما حدث في الربيع العربي، هو صورة واضحة عن هذه السياسات، التي تمارسها الديكتاتوريات العالمية الشيطانية ، على بعض الديكتاتوريات الصغيرة بحجة نشر الديمقراطية ، لهذا فمعركة السيادة في الجزائر ، صعبة وليست مجرد تظاهرات للظهور ، بل هي معركة وعي عميق ، يجب أن يخوضها جميع أبناء الجزائر في صفوف الشعب والجيش والأمن والإدارة ، لتخليص البلاد مما يراد لها من مآلات لا تخدم شعبها ولا مستقبلها .
