للإعلان
جيوسياسيات

عصر رأسمالية المراقبة: المعركة على مادة أولية جديدة، حياة البشر

لم تجد رأسماليَّة المراقبة من يقف في وجهها عند ظهورها في العقدين الأخيرين، فقد كانت الطَّفرة الرَّقميَّة سريعة وقد تخلَّف عن الرَّكب مناضلون ضدَّها وحتى الدول، ووقعت جل المجتمعات ضحيَّةً للوهم في اندفاعها خلف ذلك الأرنب الشَّقيِّ للولوج في نفق عالم، أصبح البشر كفاعل أو فكرة أو ضمير, سلعة تتحكم فيها لوغاريتمات مجندة لخدمة من يتحكم فيها عن بعد


كانت القوة في الماضي ترتبط بالعضلات فقط وتحولت في العصر الحديث عقب الثورة الصناعية إلى الاعتماد على الآلة لكن ترسخت قوة جديدة في القرن الحادي والعشرين هي “قوة البيانات” أو الداتا. لا يبحث عمالقة الويب عن التقاط حياتنا وكشفها وإلباسها لبوس العملة النقدية والتعامل المالي كأقصى ما يتطلعون إليه، بل تجدهم يبحثون أيضا عن التنبؤ بسلوكياتنا والتأثير فيها؟ تلك هي الفرضية القوية التي تقدمها الجامعيّة الأمريكية شوشانا زوبوف في كتابها الذائع الصيت الذي يحمل عنوان “عَصْرُ رأسمالية المُرَاقَبة

ويعد الكتاب أهم مؤلفات زوبوف حيث يوصف بأنه ملخص سنوات من البحث والتفكير من أجل الكشف عن عالم لم يعد فيه مستخدمو التكنولوجيا زبائن ولا موظفين ولا حتى منتجات بل أصبحوا المادة الخام لإجراءات تصنيع ومبيعات جديدة في نظام اقتصادي جديد وهو “اقتصاد المراقبة

ليس من الصدفة أو كرم أن تكون الخدمات الرَّقميَّة الجديدة مجَّانيَّة. فالذين احتفوا بمجانتيها يكتشفون اليوم و بعد ثلاث عقود فق أنهم لسوا سوى بضائعٍ مجَّانيَّةٍ بالنِّسبة لروَّاد المراقبة الرَّأسماليَّة.

كنا نعتقد بأنَّنا نبحث في جوجل لكن في الحقيقة جوجل هي التي تبحث فينا! ونفترض بأنَّنا نستخدم وسائل التَّواصل الاجتماعيِّ للتَّواصل ولكنَّ وسائل التَّواصل هي التي تستخدمنا! ولم نتساءل يومًا لماذا للتِّلفاز الجديد أو لمرتبة السرير سياسة خصوصيَّة، اتضح الآن بأنَّ سياسات الخصوصيَّة هي في الحقيقة سياسات المراقبة.

في كتاب “عصر رأسمالية المراقبة: المعركة على مستقبل البشر عند حدود القوة الجديدة” تشرح الكاتبة الأمريكية شوشانا زيوبوف التحديات التي يفرضها المستقبل الرقمي على الإنسانية وذلك في أول تفسير مفصل لشكل جديد من أشكال النفوذ أطلقت عليه الكاتبة اسم “رأسمالية المراقبة”. وفكرة الكاتبة باختصار هي أن شركات التكنولوجيا ترغب في السيطرة على كل ما نقوم به من أعقد ألي أبسط نشاطاتنا مقابل تحقيق الربح

“المنبه الذي يرنّ بجوار فراشك بناء على موعد مسجل في التقويم الخاص بك. منظم الحرارة الذكي (الترموستات) في غرفة نومك يستشعر حركتك ويرسلها إلى قاعدة بيانات مركزية. الأخبار التي ترنّ على جوالك وما يصحبها من قرار النقر عليها من عدمه… هذا كله مراقب “.

“ظروف رحلتك إلى العمل ومحتويات الرسائل النصية والكلمات التي تتفوه بها في منزلك وتصرفاتك، كل ذلك أمام الكاميرات. محتويات سلة التسوق ومشترياتك واختياراتك.. كله مسجل ويصنف كبيانات تخضع للمعالجة والتحليل وتباع مثل الرهن العقاري”. الظاهرة تمتد إلى كل القطاعات

تحاول زيوبوف توضيح أن ثمة “هندسة عالمية لتغيير السلوك تهدد الطبيعة البشرية في القرن الحادي والعشرين تمامًا كما شوهت الرأسمالية الصناعية العالم الطبيعي في القرن العشرين”

وتطرح الكاتبة العواقب مع انتقال رأسمالية المراقبة من وادي السيليكون إلى كل القطاعات الاقتصادية. “وفي الوقت الذي تصر فيه الشركات على أن التكنولوجيا التي تقدمها معقدة للغاية بدرجة يتعذر معها وضع تشريعات لها، فهي تنفق المليارات للضغط من أجل منع الإشراف عليها”

وبينما هي تبني إمبراطوريات استنادًا إلى بيانات وتفاصيل عن حياتنا الخاصة ترفض تلك الشركات مرارًا الاعتراف بالمسؤولية المجتمعية أو المساءلة و المفارقة الكبرى فهي غالبا ما تساهم في تفكيك الدول و أضعافها بالاسم الحرية والمساءلة

وذكرت زيوبوف شركات كبيرة بالاسم في مقدمتها جوجل وفيسبوك. “فبينما كان الهدف في الأصل هو كل أشكال المعرفة الإنسانية، انتهى الأمر بجوجل إلى السيطرة على منافذ الوصول إلى تلك المعرفة. فنحن نقوم بالبحث ويجري البحث عنا و عن مراكز اهتمامنا أيضًا“.

وكان هدف فيسبوك هو وصل الناس ببعضهم فقط لكن الشركة وجدت نفسها تملك أهم أسرارنا وفي إطار سعيها للاستمرار تجاريًا إلى ما هو أبعد من أهدافها الأولية باتت تملك نوعا جديدًا من الأصول وهو “الفائض السلوكي“.

هذا الفائض السلوكي هو جميع المعلومات عن كل فكرة وكلمة وعمل يمكن أن يتم الاتّجار فيها مقابل الربح في أسواق جديدة تعتمد على توقع أفعال المستخدمين

وفي المقابل، تعلن شركات التكنولوجيا أن مصادر تلك المعلومات ملك لها وترفض أي اعتراض. وتتراكم الثروة والنفوذ في “أسواق عن السلوك في المستقبل” حيث تباع وتشترى التوقعات الخاصة بسلوكياتنا ويخضع إنتاج السلع والخدمات إلى “وسائل جديدة للتعديل السلوكي”.

نفوذ لم يسبق له مثيل


توضح الكاتبة أن التهديد في العالم يتحول من مثال الدولة الشمولية التي يقودها “الأخ الكبير” في رواية جورج أورويل “1984” إلى بناء رقمي واسع الانتشار.. إنه “شيء آخر كبير” (وليس أخًا كبيرًا) يعمل لصالح رأسمال المراقبة

وبفهم فني عميق وخبرة إنسانية واسعة، كتبت زيوبوف ما قد يكون أول تفسير واضح للوضع الاقتصادي، وأيضًا الاجتماعي والسياسي للعصر الذي نحيا فيه. وهنا شكل جديد من النفوذ لم يسبق له مثيل يتسم بتركيز هائل من المعرفة.

ويكشف تحليل زيوبوف الشامل والمؤثر عن التهديدات الماثلة أمام المجتمع في القرن الحادي والعشرين “وهي سلسلة محكومة من التواصل الشامل الذي يغري الفرد بوعود مؤكدة بتحقيق أكبر فائدة، وذلك على حساب الديمقراطية والحرية ومستقبلنا البشري” . ومع قلة مقاومة القانون أو المجتمع، توشك رأسمالية المراقبة على السيطرة على النظام الاجتماعي وتشكيل المستقبل الرقمي “إذا ترك لها المجال”.

يعد الكتاب أحد روائع التفكير والبحث المستقل تقدم فيه الكاتبة تعريفًا متعمقًا ومثيرًا عن الظاهرة. وليست تلك المنطقة بجديدة على زيوبوف، ففي كتابها “عصر الآلة الذكية” الصادر عام 1988، تناولت الكاتبة في ذلك الوقت عدة قضايا في عالم الأعمال تمكنت من السيطرة على الحياة اليومية فيما بعد.

و أثناء عملها في شركة أدوية كبيرة في الثمانينيات، لاحظت وبتجربة مباشرة كيف تتحول الأدوات الجديدة للاتصالات الداخلية، التي رحب بها الموظفون في بادئ الأمر باعتبارها فضاء جديدًا للتواصل والوصول للمعلومات، إلى أدوات للسيطرة والتدخل الإداري

“مخالب”لعبة بوكيمون


وبجانب الشركات الكبيرة مثل جوجل وفيسبوك عرضت الكاتبة مثالاً للعبة إلكترونية هي “بوكيمون جو”، وقالت إن لعبة “بوكيمون جو” على سبيل المثال نموذج عن العلاقة بين “الفائض السلوكي “والسيطرة البدنية”. فبينما أشاد لاعبوها في البداية بأنها تحض على الخروج إلى “العالم الفعلي” إلا أنهم اصطدموا بواقع مصطنع بالكامل. واقع يعتمد على سنوات من تقييد الدافع الإنساني بمكافآت ومصمم لتوجيه مستخدميه إلى فرص تجارية.

فبعد أيام من طرح اللعبة في عام 2016، كشف مصمموها عن أن المواقع الافتراضية الجذابة متاحة للبيع لمن يدفع أكثر وهو ما عاد عليهم بصفقات مربحة مع ماكدونالدز وستاربكس وغيرهما من أجل توجيه مستخدمي اللعبة إلى مواقع فروعهم. ظن اللاعبون أنهم يتسلون بلعبة واحدة، وهي جمع البوكيمون، لكنهم في الواقع يلعبون لعبة مختلفة تماما مجلسها غير مرئي بينما هم مجرد “مخالب”.

فضيحة “كامبريدج أناليتيكا” الدرس


وكما يدرك المزيد من الناس الآن، فإن رأسمالية المراقبة لا تفيد الشركات فقط؛ لكنها تخدم المؤسسات السياسية كذلك، تلك المؤسسات الكامنة في الخفاء مثل كامبريدج أناليتيكا، وكذلك الكيانات السياسية العلنية كالأحزاب والمرشحين.

توصف حملة أوباما عام 2008 بأنها أول حملة تستخدم “البيانات الضخمة بيغ داتا” ، ولكن في عام 2012، كانت طريقة عمل فريق أوباما مبتكرة للغاية، ومعقدة بما فيه الكفاية بحيث تمكنوا -باعترافهم- من استهداف الناخبين وإقناعهم بأن حملة منافسه رومني، لم تكن موجودة من الأساس. تمكنوا من تنفيذ حملة رقمية فعالة للغاية، تستند للاستهداف الدقيق للأفراد عبر بياناتهم بالغة الدقة، وصارت تلك الحملة مضربًا للأمثال ونموذجًا كثيرًا ما جرى اتباعه مرارًا في أوقات لاحقة.

اليوم، أدوات تقنية مثل (جمهور فيسبوك)، و (الجمهور المتماثل)، تسمح للمعلنين -بما في ذلك المنظمات السياسية- برفع قوائم الأفراد ومطابقتها مع ملفاتهم الشخصية على فيسبوك، والحصول على ترشيحات دقيقة بملفات شخصية لأفراد آخرين يتشابهون مع من هم في قوائمهم من الجمهور المستهدف؛ ثم استهداف كل هؤلاء. هذا يعني أن الحملات السياسية يمكنها أن تمد رسالتها المصنوعة بعناية نحو المزيد والمزيد من الجماهير.

أجرت شبكة فيسبوك أبحاثها الخاصة حول فعالية الرسائل السياسية الموجهّة بدقة عبر منصتها الإلكترونية، خلال انتخابات التجديد النصفي التي أجريت في الولايات المتحدة في عام 2010. ووجدت شبكة فيسبوك أن تلك الرسائل زادت من احتمالية توجه الفرد للتصويت بنسبة 0.4% تقريبًا، عن طريق إخباره أن أصدقائه قد صوتوا بالفعل، وتشجيعه على القيام بالفعل نفسه.

وكررت شبكة فيسبوك التجربة في عام 2012، وتوصلت لنتائج مماثلة. قد لا تبدو هذه النسبة كبيرة، لكنها على المستوى القومي تُتَرجَم إلى حوالي 340،000 صوت إضافي. لقد فاز جورج بوش بانتخابات عام 2000 ببضع مئات من الأصوات في فلوريدا. وفاز دونالد ترامب لأنه تمكن من كسب 100،000 صوت في منطقة “الحزام الصدئ” (منطقة شمال شرق الولايات المتحدة).

المؤلفة:

شوشانا زيوبوف Shoshana Zuboff

حصلت الأمريكية شوشانا زيوبوف (مواليد 1951) على الدكتوراه في علم النفس الاجتماعي من جامعة هارفارد، وشهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة شيكاغو. ثم انضمت إلى كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد في عام 1981. وكانت واحدة من أوائل النساء اللائي شغلن منصبًا في الكلية، وهو منصب أستاذ تشارلز إدوارد ويلسون لإدارة الأعمال. وفي عامي 2014 و2015 كانت زميلة كلية في مركز بيركمان للإنترنت والمجتمع في كلية الحقوق بجامعة هارفارد. كرست حياتها المهنية لدراسة العصر الرقمي، وعواقبه الفردية والتنظيمية والاجتماعية، وعلاقته بتاريخ الرأسمالية. كما أسست وقادت برنامج التعليم التنفيذي «رحلة: مدرسة لأجل النصف الثاني من الحياة». لها العديد من الكتب من بينها: في «عصر الآلة الذكية: مستقبل العمل والسلطة (1988)»، «اقتصاد الدعم: لماذا تُفشل الشركات الأفراد والحلقة التالية من الرأسمالية؟».

صدر الكتاب باللغة الإنجليزية في 691 صفحة لأول مرة في 22 مايو 2018 وصدرت له طبعة أخرى في 31 يناير 2019 وكان يحمل اسمًا آخر قبل تغييره وهو “سيد أم عبد؟ الحرب من أجل روح حضارتنا المعلوماتية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى